الفكر الإسلامي

 

حفظ الدين والنفس في الإسلام

 

 

بقلم : الشيخ محمد بكر إسماعيل حبيب

  

 

  

 

 

            لقد حقّق الشرع الحنيف مقصد حفظ الدين بجانبين :

       جانب الوجود ، وجانب العدم(1).

       فقد شرع الله – تعالى – ما يحقّق الدين ويوجده ويحافظ عليه ، إذ الناس بغير الدين الحق ليسوا على شيء ، كما قال الله تعالى : ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتـٰـبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوْا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾(2) فقد جاءت نصوص كثيرة لبيان الدين الحق ، وبيان أحكام العقيدة كاملة ومفصلة ؛ فجاء الأمر بالإيمان بالله تعالى ، وملائكته ، وكتبهِ ، ورسله ، واليومِ الآخر، والقدر خيره وشره ، وجاء الأمر بأركان الإسلام الخمسة من الشهادتين ، وإقامِ الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ، وجاء الإرشاد إلى أنواع العبادات المختلفة وكيفيتها ، وجزائها .

       وجاء الأمر بالعمل بهذا الدين وتطبيقه ؛ ليرسخ في النفوس ، ويستقرّ في حياة الناس ومجتمعاتهم .

       كما جاء الأمر بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ لإخراج الناس بهذا الدين من الظلمات إلى النور، ومن جَور الحكام إلى عدل الإسلام(3).

       كما أمر بالجهاد ؛ لتعلو كلمة الله تعالى ، ويصل هذا الدين إلى كل الناس ؛ فالجهاد بهذا الاعتبار في جانب وجود الدين بالدعوة إليه ، وإزاحة الطواغيت من أمامه حتى يصل إلى كل العالم(4)، وهذا في جهاد الطلب .

       كل هذه الأوامر إنما هي ؛ لتحقيق الدين والحفاظ عليه وتفعيله في عالم الناس ، فهذا هو جانب الوجود ، فجانب الوجود يقوم على الأوامر والحثّ على الفعل والترغيب فيه إيجابًا كان أوندبًا .

ثانيًا : جانب العدم :

       هذا المقصد وهو >الدين< أعظم المقاصد على الإطلاق ، فلم يترك هكذا ؛ لعبث العابثين ؛ بل حفظه الله – تعالى – من الاعتداء عليه ، والتهاون به، والاستخفاف بأحكامه ؛ لذا شرع الله – تعالى – من الأحكام ما يرد المعتدي ، ويدفع عنه تحريفَ الغالين ، وانتحال المبطلين ، وبالجملة كل ما يؤدّي إلى ضياع الدين أو إضعافه .

       فشرع الله تعالى الجهاد ؛ لردّ أعداء الدين عن فتنة أهله والمتمسكين به ، فهو هنا ؛ لدفع المفاسد .

       وشرع حدّ الردة لمن أراد أن يتّخذ دينًا غير هذا الدين الحق بعد أن دخل فيه ، وعرف أنه الحق المبين ، وحتى لا يغري غيره من الضعاف أو عوام المسلمين .

       وحذّر من الابتداع في الدين ، وبين عقوبة المبتدع وجزاءه .

       فحفظ الدين من جانب العدم يقوم على النواهي ، والتحذير من فعل المنكرات والمعاصي وعلى رأسها الشرك بالله ، والبدع ، والترهيب من هذه الأفعال وأمثالها ؛ لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد ، وحفظهم من مفاسد الشرك ، وإنقاذهم من وساوس الشياطين من الإنس والجن، وعدم الوقوع في الانحراف والضلال ؛ وحتى لا يسف العقل في عبادة الأحجار والأصنام ، أو الأبقار والقرود والثعابين ، أو الشمس والقمر والنجوم ، أو تأليه الأشخاص وعبادة البشر ؛ ولينقذ البشريّة من طقوس العبادات المزيفة ، والترانيم السخيفة ، والاعتقادات الباطلة).(5)

       فخلاصة الأمر أن حفظَ الدين يكون بالعمل به ، والحكم به ، والدعوة إليه ، والجهاد في سبيل إعلائه ، وردّ كل ما يخالف الدين من الأقوال والأعمال ، والأخذ على يد الخارجين عن أحكامه وحدوده ، وتلك مهمّة العلماء والحكّام(6).

       هـذا ومن فضل الله – تعالى – أنه تكفل بحفظ هذا الدين ؛ فقال تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰـفِظُوْنَ﴾(7). وذلك هو القرآن الكريم والسنة المطهّرة ، إذ هي ذكر، كما قال تعالى : ﴿وَأَنـزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(8) فشمل ذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة .

حفظ النفس

            لكي يتحقّق الدين في الوجود ويطبق ، لابد من نفسٍ تقوم به وتعمل ، وتتحاكم إليه وترجع ؛ لذا كان خَلْق الإنسان لهذه المهمة الشريفة ؛ بل وغير الإنسان ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(9) ﴿وَإِن مِّن شَىءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلـٰـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾(10).

       وقد خصّ الله – تعالى – الإنسان بمزيد تكريم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(11) فخلقه بيده ، وأسجد له ملائكته ، وسخّر له ما في البر والبحر، نعمةً منه وفضلاً ؛ ليشكر ربَّه تعالى على هذا التكريم والفضل بعبادته وحده لا شريك له ، وذكره في كل حال .

       لذا جاء الإسلام بالمحافظة أشد المحافظة على الأنفس ، ولم يُبِحْ إهدارَها إلا إذا هي أصرت على أن لا تُكرَّم أو تُصان ، بالإصرار عن الشرك والمحاربة ، أو العودةِ إليه بعد الإسلام ﴿وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾(12).

       كما أن الإنسان إذا أسلم نفسه لله – عز وجل – ؛ فإنها تحصن ولايجوز المساس بها إلا بحق الإسلام وحال اعتدائها على غيرها اعتداء يوازي قتلَها ، بأن قتلت نفسًا معصومةً ، أو زنت بعد إحصان ، >لايحلّ قتل امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة<(13) .

       وقد حفظ الإسلام النفوس من جانبين ، جانب الوجود ، وجانب العدم . أولاً : جانب الوجود :

       فقد شرع الله – تعالى – ما يكون سببًا في إيجاد النفس وبقائها محفوظة سليمة ، فقد شرع الزواج ورغّب فيه ؛ بل وركب في الإنسان الشهوة ، والرجال للنساء ، والنساء للرجال ؛ ليحصل التناسل والتوالد ؛ فتوجد الأنفس .

       وأمر بالأكل والشرب ، وامتنّ باللباس والمسكن ، وأوجب ذلك في حالات معينة تؤدّي إلى هلاك النفس أو الضرر بها إذا لم يفعل .

       وأوجب النفقة للصغير على الوالد ، وللزوجة والمطلقة الحامل على الزوج ، وأمر الوالدة بإرضاع ولدها(14).

       وبالجملة فجانب الوجود يقوم على الأوامر التي تحفظ النفس والترغيب في الأعمال التي تحصل ذلك ، إيجابًا كان أو ندبًا ، أو إباحة .

       (ومن الوسائل التي شرعت لحفظ الأنفس إباحة المحظورات في حالة الضرورة إنقاذًا للأنفس من الهلاك ، قال تعالى : ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثـْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(15))(16).

ثانيًا : جانب العدم:

            فقد شرع الله – تعالى – أحكامًا حتى لا تهلك للنفس أو تتلف أو تعطب ؛ لتسلم لأداء مهمتها .

       فحرّم إلقاءَ النفس إلى التهلكة ﴿وَلاَ تُلْقُوْا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(17) .

       وحرّم فعلَ ما يضر بالإنسان أو بغيره >لاضرر ولا ضرار< .

       كما حرّم تناول ما يؤدّي إلى سقم البدن أو إمراضه ، ولذا حرم كل ضار وخبيث ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبـٰـفِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـٰـئِثَ﴾(18).

       وحرّم قتل النفس بغير حق ﴿وَلاَ تَقْتُلُوْا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾(19).

       وشرع القصاص لردع من يفكّر في قتل الأنفس ؛ فيحيا الناس .

       بل وصل الأمر إلى النهى عن ترويع المسلم ولو بالإشارة بالسلاح ، قال أبو القاسم >من أشار إلى أخيه بحديدة ؛ فإن الملائكة تلعنه ، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه<(20).

       وقد جعل الله في إماطة الأذى عن طريق المسلمين خيرًا كثيرًا ، فقد قال >لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة ، في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس<(21).

       ولما جاء أبو برزة t للنبي قال : قلت : يا نبي الله ! علِّمْني شيئًا أنتفع به ، قال >اعزل الأذى عن طريق المسلمين<(22).

       وبالجملة ؛ فجانب حفظ النفس من العدم يقوم على النواهي وتحريم كل ما يمس بتلك النفس بغير حق ، والترهيب من ذلك ، يقول الله تعالى : ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مِّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خـٰـلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعْنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(23).

       وقال >لن يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دمًا حرامًا<(24).

       وقال >لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق<(25) .

       وقال >أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم ،ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، ومطّلب دم امرئ بغير حق ؛ ليهريق دمه<(26).

       (وجعل الإسلامُ إنقاذ الغريق فرض كفاية)(27)

       كل هذا وغيره يدل على اهتمام الإسلام بالنفس والمحافظة عليها ؛ لتعيش تعبد الله – تعالى – وتذكره ، فأي تشريع أرضيّ طينيّ حفظ للنفس بقاءها أو ضرورياتها ؟.

*  *  *

الهوامش :

 

(1)       انظر في حفظ الضروريات عمومًا بجانبي الوجود والعدم : الموافقات بتعليق دراز 2/8 وما بعدها .

(2)       سورة المائدة ، آية : 68 . وانظر مقاصد الشريعة الإسلامية لليوبي ص 194 .

(3)       انظر : مقاصد الشريعة للزحيلي 319 .

(4)       انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية لليوبي 195 ، 203 .

(5)       مقاصد الشريعة للزحيلي 319 أخذاً من المستصفى 1/287. الموافقات 2/5 . ضوابط المصلحة ص 119 ، 58 = وما بعدها .

(6)       انظر تفصيل ذلك في : مقاصد الشريعة لليوبي 195 ، 209 .

(7)       سورة الحجر ، آية : 9 .

(8)       سورة النحل ، آية : 44 .

(9)       سورة الذاريات ، آية : 56 .

(10)  سورة الإسراء ، آية : 44 .

(11)  سورة الإسراء ، آية : 70 .

(12)  سورة الحج آية : 18 .

(13) متفق عليه أخرجه (البخاري) في صحيحه ، كتاب التفسير، باب قوله تعالى ﴿فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وكتاب الحدود ، باب إثم الزناة ، وآخرجه (مسلم) في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب كون الشرك أقبح الذنوب.

(14)  انظر : مقاصد الشريعة للزحيلي 320 .

(15)  سورة البقرة ، آية : 172 .

(16)  مقاصد الشريعة الإسلامية لليوبي 229 .

(17)  سورة البقرة ، آية : 195 .

(18)  سورة الأعراف ، آية : 157 .

(19)  سورة الإسراء ، آية : 33 .

(20) أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب البر والصلة ، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم (مختصر صحيح مسلم لمحمد بن ياسين 2/405) .

(21)  المرجع السابق .

(22)  المرجع السابق .

(23)  سورة النساء ، آية : 93 .

(24)  أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الديات ، باب (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا) .

(25) أخرجه الترمذي ، كتاب الديات ، باب ما جاء في التشديد في قتل المؤمن ، وابن ماجة ، كتاب الديات ، باب التغليظ في قتل مسلم ظلمًا ، والنسائي ، كتاب تحريم الدم ، باب تعظيم الدم ، وصححه الألباني (صحيح الجامع 2/905).

(26)  البخاري في صحيحه ، كتاب الديات ، باب من طلب دم امرئ بغير حق (مختصر صحيح البخاري للزبيدي 494 رقم 2172) .

(27)  مقاصد الشريعة للزحيلي 320 .

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير - مارس  2007م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 31.